الجمعة، ٢٧ يونيو ٢٠٠٨

في حضرة التاريخ

في انتظار الحافلة..تركت قدماي تقوداني في غزة المنهكة الباهتة ،حيث لم يعد أحد خاصة قبل التهدئة أو بعدها  يأبه لأحد.. فالحال لم يتغير كما توقع أهل الكشف والفطنة ، و كل شيء بات ممكنا ، وصار الإنسان أرخص السلع ،والموت أصبح التجارة الرائجة ،بل وثيقة السفر السهلة و المضمون الحصول عليها مع وعود الرضا القاطعة من جهابذة التجار للغلابة بالوصول سالمين آمنين إلى الحور العين أو بوعيد الغضا وصولا ترانزيت إلى جهنم و بئس المصير..!!

 

وجدتني أتجه إلى  "المكتبة الهاشمية " ،وقد ظننت أنها أغلقت منذ زمن ..فقد غادرتنا الثقافة غير آسفة، وانزوى المثقفون كعير جربى ،وأصبح الكتاب في خضم تخلف الكتب الصفراء وتخاريف الأحجبة و"شمهورش"  و"أبو رجل مسلوخة "غريبا في يد غريبة ..!! يثير عاصفة من الضحك والاستهجان  ..!!

مقابل ذلك طرأت علينا ثقافة جديدة للموبايلات  والمسجات  والسيديهات والام بي ثري وأدب الفضائيات من أغنيات ومسلسلات تفتح الطريق للشباب المؤمن  لكي يؤمن عشقا سريعا بالجوالات على طريقة خذ وهات ..؟!!..

 

تذكرت وأنا أقترب من هدفي أن مسلسل "نور " التركي  الناعم المفلتر والمدبلج يحقق أعلى نسبة مشاهدة في غزة بفضل رعاية فضائية سعودية تقية ..!!، وان أهل غزة باتوا يعرفون كل شيء عن الحسناء نور والدون جوان الاشقر "مهند" بينما هم لا يعرفون اسم وزيرة الثقافة  في حكومة تسيير الأعمال أو أسم وزير الثقافة في الحكومة المقالة..!!

وتذكرت بما يؤكد أصالة هذا الزمن الذي نعيش.. أن الراقصة" فيفي عبده" في عزها قبل سنوات كانت تأخذ في هزة الوسط الواحدة ما يعادل رواتب جميع اساتذة القاهرة وعين شمس..!!

 

وصلت إلى المكتبة  فوجدتها للمفاجأة السارة على قيد الحياة ودلفت إلى الداخل  لفحتني رائحة الكتب فعانقتها كحبيبة لم أرها منذ خمس عشرة سنة..

نظرت ..وتأملت مكان "الصالون" الخاص بنخبة من مثقفي غزة وأعلامها أمثال المرحوم د.حيدر عبد الشافي وأخيه مصطفى..و حي الذكر أ. فريد أبو وردة والصحفي محمد آل رضوان رحمه الله.

 استغرب العامل..وظنني مجنونا..فابتعد عني قليلا ..

سألته عن كتاب للدكتور رفعت السعيد.. فبقي فاغرا فاه.. بعد لحظات  أنس لي واقترب..!!

 

رأيته ..عرفت فيه صاحب المكتبة..دعاني إلى فنجان قهوة   بعد أن أطمأن إلى كوني كاتبا ..

تأملته عن قرب هذه المرة .. تاريخ متحرك يلبس بذلته الأربعينية الأنيقة  ولا يزال يحافظ على برستيجه الأخاذ كالممثل القدير خالد الذكر  حسين رياض

تركته يتحدث.. لم أقاطعه..لأني أعشق التاريخ بمثل ما أكره الجغرافيا..

في لحظة  انجررنا إلى نقاش الساعة ..وجدته يهاجم ما قبل ..!! ووجدتني لا أبرىء ما بعد..!! واتفقنا بسرعة على أن لا خير في كليهما..!!

أعجبني في الرجل انه لا يزال تحت غبار الزمن يحافظ على لياقته الفكرية وذكائه الفطري كصحفي قديم..!!

في غمرة الحديث أخرج ملفا وفتحه بعناية كمن يفتح البوم ذكريات حب "بين الأطلال".. وإذا بي أمام صور نادرة له برفقة جمال عبد الناصر..كمال الدين حسين..على ماهر..الحاكم الإداري لقطاع غزة.. الخ الخ

صور أخرى نادرة للمرحوم والده..تحكي عن حقبة مطموسة من تاريخ غزة ،كانت أخر الصور مع الرمز الراحل ياسر عرفات ..!!

بادرته بسؤال عفوي..والباقي..؟!!

قالت عيناه وبلغة السهل الممتنع:كلهم عابرون في أحداث عابرة..!!

سألته إن كان فكر في نشر مذكراته..!!

ابتسم بمرارة  وهمس بصوت منهك : ومن يهتم..؟!!

 لقد أجرت إحدى الفضائيات المشهورة معي لقاء.. و......

أكملت نيابة عنه : وحلقت..!!

أدركني الوقت..شكرت تاريخا حيا و نابضا اسمه "خميس أبو شعبان"

ودعته فوضع في يدي قصيدة كتبها شاعر مطبوع يصف فيها رفاقه في صالون النخبة تحت سقف الهاشمية وقد بلغت من عمرها ما يزيد عن 45 عاما

خرجت..وعبارته الأخيرة "من يهتم..؟!! ترن في أذني

نعم وهل لذكريات أقدم صحفي في غزة أدنى قيمة مقارنة بأخر أخبار فساتين السهرة وموضات الصيف ومباريات بطولة أوروبا ومسلسل المناكفة المستمر بين الملاكمين "سمعة "وعبس" ..!!

لقد تغيرت المعايير..فالزمن زمن هيفا.. وليس زمن أم المؤمنين..!!

ملأت الغصة قلبي وفاضت ضحكة هستيرية لم استطع كبحها والمارة من حولي ينظرون  ويشيرون إلي إشارات ذات معنى ويقولون "لا حول ولا قوة إلا بالله "

ركبت الحافلة التي كنت انتظرها..

تلقفني صديقي:  وووووين كنت..؟!!

رددت بتلقائية :مع التاريخ..

ضحك صديقي.. وقال :أكيد شارب حاجة..!!

الثلاثاء، ١٧ يونيو ٢٠٠٨

سنة أولى..موت..!!

مر عام بالتمام والكمال على قيام التجربة الإسلامية في غزة  ،وقد صدقت فيه توقعات وخابت توقعات..!!

فالعام بما حمل مضاعفا من آلام الحقد الأخوي وشظف الحصار ودموع القصف ومعاناة الشموع ووداع مئات الضحايا ومرارة الممارسات والملاحقات ونكايات الظالم بالمظلوم وانقسام القاسم و المقسوم ...الخ الخ ..!!

كان عاما مشبعا بالدم والقبح والبغض والجراح ..ثقيل الوطأة جدا على المعسرين دون الموسرين باعتراف العميان قبل المبصرين ويغض النظر عما إذا كنا من المتحمسين  أو كنا من المتفتحين..!!

عام لا تزال فيه والحمد لله حماس بخير وكذلك فتح بعافية  بينما الوطن يبدو كقطعة جبن لا صاحب لها يقضمها القط العبري باستمرار على شكل مستوطنات أو أراض مصادرة لحساب الجدار ..!!

 

الحمد لله الذي سلم للقضية عباسا و هنية وأمثالهما من الهمم العلية..حتى لو تحول الوطن ببركة تناحرهما إلى حقيبة او خيمة أو حتى بطانية ..فالزعامات النادرة في زمن الطوائف لا تعوض ..!!

 

في البدء قالت توقعات المنتصرين: أن الغيث سيهطل ببركة النصر والتمكين  ورقا أحضر  وسيعم العدل بعد الفساد على الجميع إلى درجة لن نسمع فيها عن دابة تتعثر في طريق وستنتقل التجربة الربانية إلى الشرف رغم انف أمريكا وإسرائيل ليصبح الوطن كله متخما بالمن والغسل وكأنه جنة الله على الأرض..!!

 

و في البدء أيضا قالت توقعات المنهزمين: أن ما جرى لن تصمت عليه إسرائيل أياما أو أسابيع  وسنقوم بإعادة احتلال غزة وإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء وإعادة السلاطين إلى سلطناتهم خاصة وان الحكام الجدد لن يستطيعوا إدارة الأمور في ظل استمرار الحصار فهم قليلو قدرة وخبرة ..!!

 

لقد أثبتت فاتورة عام مضى.. أن توقعات الأغبياء المنتصرين والمنهزمين على السواء خابت  بما يستوجب إعادة النظر من الجميع قيل ان يضيع ما تبقى من القطيع ..!!

فحماس أثبتت بما لا بدع مجالا للشك أنها أقوى مما اعتقد البعض ويعتقد وينابيعها أكثر وأغزر مما يعلم وأنها  بعنادها وعتادها تعرف جيدا ما خططت و تخطط له منذ سنوات ،وما لدى أمرائها من غايات أكبر من أن تلجم لاعتقادهم الراسخ أنهم إنما ينفذون مشيئة الله لذا فمن الطبيعي أن تبقى في المكان إلى الآن رابضة  وعلى مقاليد غزة قابضة..!!

 

ولكنها  أي حماس لم توافقها الرياح الدولية كما كانت تظن و لم تكن تتخيل أن تسوء الأمور إلى هذه الدرجة فقد كانت تتصور أنها بالحسم ستروض فتح  وتجبرها على القبول بالواقع الجديد وبالتالي تبعدها من الصدارة  إلى الوزارة  وان لم تفلح فستفوز على الأقل بغزة حية أو ميتة..!!

 

و با لمقابل فان  إسرائيل لم تحتل غزة كما اعتقد البعض الحالم، واكتفت بعمليات الصيد والقنص.. لأنها المستفيد الأول مما حدث ،فغزة المنسلخة عن الضفة  هى وضع أكثر من مثالي بالنسبة لها  ولن تقوم إسرائيل والحال كهذه باجتياح غزة..بل ستسعى إلى تهدئة أو تجميد لوضع وطن ممزق وشعب في حالة موت سريري !!

 

 

من المؤسف أننا ربما ونحن لا ندري من فرط ضغط الرغبة والاندفاع نخدم أغراض أعداءنا ونخدمها أكثر بأنانياتنا وبعنادنا وشروطنا التعجيزية على بعضنا البعض..!!

 والسؤال ..

هل سيسامحنا التاريخ والأجيال القادمة على تجاربنا الفاشلة واجتهاداتنا القاتلة التي أضاعت من كرامتنا الوطنية وأحلام أطفالنا و روابي وطننا الكثير الكثير..؟!!

ثم ..ألا يكفينا عام طويل مرير انهزمنا فيه جميعا أمام شهواتنا وطموحاتنا المتناقضة..؟!!

ثم ..ألسنا بجاحة إلى يوم أو بعض يوم ننتصر فيه على أنفسنا ونواجه بشجاعة حقيقة خطيئة شاركنا فيها جميعا وتجرنا جرا في نفقها الأشد ظلمة نحو عام آخر..؟!!

الأحد، ٨ يونيو ٢٠٠٨

كل امتحان ونحن بخير..

 بداية..

أعتذر لقرائي المتابعين الموافقين منهم والمفلوقين عن غيابي عنهم أسبوعين كاملين كإجازة إجبارية من التنتيت السياسي بأمر من المدام بسبب حالة الطوارىء التي فرضتها لمواجهة   الامتحانات  فقد تحول البيت الى مدرسة خاصة بالمعنى الحقيقي مكونة من أربع فصول  وكان على أن أتولى متابعة ابن التوجيهي وأن انقله بسرعة من أجواء "تامر حسني" الى أجواء النحو والبلاغة ولكم ان تقدروا حجم معاناتي إذ يريد"دلوعة أمه" أن أعطيه ثمرة عصارة علم سيبويه والكساتي وأبي الأسود الدؤلي في ملعقتين..!! وقد اكتشفت أن الولد أشيه بالخزان المثقوب فما يفهمه في المساء بنساه في الصباح  فكنت كمن يحرث في بحر ولكن من أجل سواد عيون ناظرة المدرسة  أفعل المستحيل خاصة وانه يطالني جانب من النعم  التي تدس بالسر والعلن إلى التلميذالحيلة فمن سندوبتشات إلى شاي إلى عصير إلى قهوة الى فرخة  الخ الخ

ولقد سرحت مرة في ذكرياتي عندما كنت طالبا في التوجيهية بعيد النكسة فوجدت أن أقصى درجات العز من أبي و أمي الأميين رحمهما الله كانت بيضتين قدمتا إلي سرا في محيط كامل من الدقة والزعتر  والزتون ومخلل الباذنجان وقشر البطيخ الذي حرق قلبي..!! ومع ذلك رفضت تناولهما إلا برفقة أخوتي..!!

كان أيامنا منظر "المعرش"قاعة الامتحان الواسعة في الهواء الطلق يقشعر البدن ويجعل الركب تسلم على بعضها البعض..!!

ومع ذلك..

فاني وللحق أعذر جيل ابني  الممزق والمتشظي بين تسارع الأحداث الرغبات والشهوات والفضائيات وكثرة الطلب على الشيكلات في زمن أرخص ما فيه الموت  مقارنة بزمن  جيلنا الذي كان الفقر من أمامه والضياع من خلفه ولابد له أن  يفوز بالتوجيهية ليكمل المسبرة ويحصل على لقمة عيش..!! وإلا يقدم على الانتحار غرقا في البحر أو تحت القطار القادم من مصر..!!

ولم يكن أمام جيلنا قبل أربعين سنة الا الراديو والبلاغات العسكرية الواردة من  القناة وكنا فقط عندما نزهق من المتنبي أو قوانين نيوتن في رحلتنا اليومية إلى الأحراش  نلجأ كصوفي معتزل مع شعر أشعت أغبر وذقن طويلة إلى نار عبد الحليم حافظ أو جنة شادية ونفتح صرة الدقة ونزدرد لقيمات الخبر الناشفة مع جرعتين من الماء.. وكفي الله الدارسين شر القتال ..!!

نعم

أعذر جيل الجل و البيليفونات والرنات على ما يواجهونه من ضغوط أو مضاعفات الحصار الخانق ومن تمزقات و استقطابات بين فتح وحماس ومن إغراءات النتات والسيديهات والفضائيات  فمن الطبيعي أن يكون وجه هيفاء أرق وانعم من سحنة منهج التوجيهي الطافح و المكتظ  ومن الطبيعي أيضا أن طعم سي دي "يوحة" ألذ من طعم إعراب كلمات مهجورة في امتحانات سابقة ..

ولكن أن كان جيلنا هو حيل تحدي ظروف الذل والجوع فان هذا الجيل يجب أن بكون جيل تحدي الوجود نفسه فاما أن يكون أو لا يكون وبالفعل فان من أبناءه من شرف ويشرف فعلا شعبا كاملا بالتفوق والدرجات العلا..!!

نعم كل قلبي مع كل الممتحنين وخاصة أبناء التوجيهية بما فيهم ابني المدلل طبعا.

وقلبي المتشائل مع مبادرة الحوار الوطني التي أطلقها الحكيم عباس وأيدها الهمام هنية..!!

وأخشى أن تفشلها أنانيات من لا يهمهم سوى أن يستيقظوا صباح كل يوم و كراسيهم لا تزال يخير فوق رقاب الناس..!!

أدعو الله أن يلطف بأبنائنا وبنا كشعب مغلوب على أمره فكلانا أمام امتحان وكل امتحان ونحن بخير .