دحرجة من أسفل إلى أعلى
أفكار وأحداث كثيرة تمر في النهر على مدى الأسبوع وتستحق منا التوقف عندها أو مداعبتها على الأقل ،والقراءة لكاتب معين في صباح أو مساء يوم معين قد يكون ممتعا للقارئ ومفيدا للتواصل معه ولكن الكتابة الدورية بالمقابل قد تكون بلا نكهة كالخضار المجمدة وآليتها تبعث على الملل عدا عن أنها تستعبد المبدع وتستنزف أفكاره إلى درجة التكرار دون أن يدري ..!!
لذا ستكون و جهتى هذه المرة غير سياسية رغم أننا تعودنا في هذا الزمن على أن السياسة أشبه بملح الطعام الذي يدخل في كل شيء حتى الحلويات..إلى درجة إن البعد عن السياسة ..هو سياسة في حد ذاته..ولكن هناك فرق واضح بين ملح البليلة وملح الفسيخ وعلى هذا فإنني في هذه المقالة أدحرج كلاما واضحا له خصوصية معينة من أسفل إلى أعلى بعكس منطق الجاذبية الأرضية في موضوع على مستوى عال من الأهمية والصعوبة وقد أثار لغطا ومعارضات عند شريحة واسعة من أهالي قطاع غزة لأنه يتعلق بمستقبل أطفالهم ووجودهم المنظور وبالتالي لا مجال فيه للمجاملة أو الخوف .!!
وأنا العبد الفقير أعتقد انه لا تعوزني الصراحة والشجاعة وقد حاولت اثبات ذلك في أكثر من موقف ..فما بالك إذا كان الموضوع يتقاطع يوميا مع مبررات وجودي كلاجىء فلسطيني أولا وتربوي ثانيا..!!
ولندخل في الموضوع..
الهدف : رفع مستوى التعليم بمدارس وكالة الغوت في قطاع غزة
قائد النشاط: السيد جون كنج
الفئات المستهدفة :1 تلاميذ وطلاب صفوف التعليم الأساسي
2 مدراء المدارس ومساعديهم والمعلمين
3 دائرة التربية والتعليم
البداية : كانت بتعيين السيد كنج مدير العمليات وكالة الغوث خلفا للسيد... حيث بدأ على الفور وبنشاط وهمة في فرض الانضباط والهيبة من خلال جولات ميدانية أثارت الرعب في قلب كل موظف نائم أو مسترخ أو مختبئ..!!
فبدأ سعار النظافة المحموم ووضع الاستنفار الدائم يغشى المدارس وبات الكل يخشى أن يكون فريسة لهذا الجندي الايرلندي الجسور ..في الوقت ذاته وقعت يد السيد كنج على الكثير من قضايا الفساد والبيروقراطية في معظم الدوائر وباشر بنفسه التحقيقات مع بعض رؤوس المافيا المتغلغلين ..فسقط من سقط ونجا من نجا..!!
وأدى ذلك إلى استصغار شأن المقصرين والبيروقراطيين في الدوائر وخاصة دائرة التعليم في مقابل إتمام السيطرة الايرلندية على الأمور في شخص السيد كنج ونائبه.
واجتمع معنا السيد كنج كمدراء مدارس لأول مرة في ... ونحن نكاد لا نصدق عيوننا..لان مدراء العمليات السابقين مع كل الاحترام لم نكن نراهم إلا عبر الصور في نشرات وكالة الغوث الدورية.!!
أصغينا للرجل الذي قدم رؤيته بكل وضوح وطموح..
وأصغى إلى رؤيتنا لأسباب الخلل في مستوى التعليم وسبل العلاج
وخرجنا من الاجتماع بشعور قوي أن الرجل رغم سمته الهادئ جاد جدا وله رؤيا إصلاحية شاملة لخدمات الاونروا وأولها التعليم وهو يعتبر الأطفال الفلسطينيين كأطفاله. وبرز السؤال :هل ينجح هذا في ظروف كهذه ومعوقات لا أول لها ولا أخر..!!
..وبالفعل تعرض السيد كنج بعد أسابيع لحادث إطلاق نار كما يبدو بهدف تخويفه وثنيه عن المضي في خططه إلا أنه واصل الطريق بدعم المهنئين الكثر بسلامته ولكن بخطى أكثر حكمة وتأن وأقل استفزازا واندفاعا ..!!
وكانت خطواته موفقة وراسخة عندما فتح الباب على مصراعيه للمجتمع المحلي متفهما همومه وتخوفاته وحساسياته.
ثم كانت مسابقة التميز التي شاركت بها 37 مدرسة وأسفرت امتحاناتها الدولية المتميزةعن نتائج جد متواضعة كشفت مدى التزويق والتلفيق في نتائج الامتحانات العادية..!!
وهنا بدا الغضب والإحباط واضحين في خطاب السيد كنج وهو يعرض النتائج مهددا بشكل واضح ولأول مرة : أن لا مكان لكسول أو مستهتر بيننا..!! وأكد أن لا دعم للتعليم بدون تقدم في النتائج. مذكرا بالميزانيات المرصودة للتعليم العلاجي وألعاب الصيف.
ونصل بمسلسل السيد كنج الدرامي الى الذروة..وأعني بذلك النماذج التدريبية لامتحانات النصف الأول والتي وزعت قبل ذلك بشهر و أثارت ضجة عارمة وتخوفا شديدا عند قطاع من المعلمين وعند معظم أولياء الأمور لسببين أولهما نوعية جديدة من الأسئلة تعتمد على المهارات لا الحشو والحفظ وثانيهما :ضخامة النماذج وازدحامها بما لاينا سب الوقت.
ونفذت الامتحانات بملاحظة صارمة وتدقيق مشدد لتظهر النتائج الصادمة رغم توقع الكثيرين لها ..ليعود بنا السيد كنج إلى خطابه الحاد معلنا أنه لن يقبل التبريرات والأعذار ومطلقا العنان لتهديدات معلنة ومبطنة لكل متقاعس ومتخاذل..!!
لقد كان صريحا معنا في اجتماعاتنا الأخيرة وكانا صريحين معه أيضا.. وأوضحنا له أن خطواته صحيحة في مواجهة فجوة تعليمية عمرها 20 عاما تسبب فيها جهلنا النضالي عبر الإضرابات المفتعلة وزعرنات إقفال المدارس..ولكن هذه الخطوات تبدو متعسفة للبعض ولن يظهر تأثيرها بين يوم وليلة بل تحتاج إلى 3-5 سنوات وبتظافر جهود الجميع من معلمين وإدارة وأولياء أمور..!!
وأخيرا يفرج السيد كنج عن نتائج المدارس التفصيلية بعد تأجيل لمدة 20 يوما تخوفا من رد فعل متوقع لأولياء الأمور وهذا يدل على قوة بصيرة وحكمة في ظروف الحصار الحرجة
بقي أن أقول كلمة حق من منطلق معايشتي للمشكلة وخبرة 36عاما في مجال التعليم والإدارة والتربية..
إن ما يقوم به السيد كنج الآن كان يجب أن يقوم به قادتنا السياسيين والتربويين والإصلاحيين منذ زمن طويل بدلا من التناحر والتفاخر بالعنتريات الفارغة..!!
أما أصحاب الوساوس والهواجس المسكونين بنظرية المؤامرة والتوجس من كل أجنبي والذين يروجون عبر مقالات فاسدة إشاعات كاذبة وملفقة عن مخطط استعماري صهيوني لتخريب التعليم ويستميتون بشتى الطرق في الدفاع عن ميراث الجهل والتخلف..!!
أمثال أولئك هم أعداؤنا الحقيقيون من بيننا ينهشون أي فرصة ممكنة لبناء مستقبل واعد يليق بأبنائنا وهم في رأيي لا يقلون خطرا عن عدو يتربص بنا ..يحاصرنا..ويقتلنا يوميا بدم بارد..!!
وليعلم الجميع أن التعليم برمته في قطاع غزة وخاصة الحكومي منه يؤول إلى السقوط ويجب على علينا أن نقف كل في مكانه وقفة موضوعية جادة أمام المستوى المهاري الحقيقي للطالب ونوعية المدرس و ازدحام المنهاج وسلبية البيت والبيئة سعيا لإنقاذه قبل فوات الأوان..!!
إن مستوى النتائج الدولية لمدارسنا في الحضيض..وسمعة جامعاتنا الأكاديمية لا تسر
وليتأمل كل غيور المستوى المعرفي المتدني لمعظم خريجي الجامعات والذي لا يؤهلهم حتى لبيع البطاطا ..!!
قد أبدو قاسيا.. ولكن الحقيقة البشعة المدعمة بالأرقام غير قابلة للأسف ان نلطفها بفازلين التبريرات والدجل أو بمستحضرات التجمل والكذب ..ويجب على أولياء الأمور الذين كانوا يركنون إلى النتائج المفبركة أن يستيقظوا اليوم من الوهم على حقيقة ستتحول إن لم تواجه وتعالج إلى خطيئة..!!
إني على ثقة وبعيدا عن أي شبهة مداهنة أو تملق للأعلى من أسفل قارب على التقاعد أن السنوات القادمة ستثبت أن السيد كنج كان على حق لأنه ببساطة يعتمد على حقائق ورؤى شجاعة تطمح للتغيير إلى الأفضل..!!
فقط أرجو منه أن يتخفف قليلا من لغته وإيماءاته العسكرية ويتسع صدره أكثر ..فهو لا يقود جيشا في موقعة حربية تتطلب الحسم في أسرع وقت وإنما يقود قادة يعتزون بكرامتهم.. في موقعة تربوية تتطلب ثقة وجهدا وتعاونا وصبرا والانتصار فيها مرهون بمدى الانتماء للوطن والإخلاص للهدف من أجل أطفالنا ..امتدادنا الطبيعي إلى المستقبل .